” حين تُبنى المعارف على الظنون و تُحجب الحقائق عن العقول ”
في عالم تتسارع فيه المعلومات و تختزل فيه المعارف عبر الشاشات و المنصات ، تتسلل إلى العقول قناعات زائفة ، لا تُبنى على الأدلة ، بل على التكرار ، و على ما يبدو مألوفاً أو مريحاً . و هو يقين أعمى لا يسنده وعي و لا عقل ناقد ، بل يرتكز على أوهام معرفية تعززها العادات ، و الإنحيازات الشخصية ، و التلقين غير الواعي .
ينشأ الوهم المعرفي حين يعتقد الفرد منا أنه يملك معرفة ما ، في حين أن ما يملكه لا يعدو كونه ظناً أو رأياً موروثاً . و قد أثبتت دراسات علم النفس المعرفي أن الإنسان ميّال إلى الثقة الزائدة في معتقداته الشخصية ، حتى دون تمحيص أو تحقق من مصادرها .
حين تُبنى المعارف على الظنون ، لا على الأدلة ، تصبح الحقائق مشوشة أو مغيبة . فبدلاً من البحث عن الحقيقة ، ينشغل الناس بتأكيد ما يوافق هواهم أو يعزز قناعاتهم السابقة . و هكذا تُطمس الحقائق خلف ستار من الضجيج المعرفي و التفسيرات المغلوطة ، و تصبح الأكاذيب أكثر تداولاً من الحقائق نفسها .
الوهم المعرفي هو أحد أبرز تجليات اليقين الأعمى ، و يشير إلى ميل الإنسان إلى الاعتقاد بأنه يعرف أكثر مما يعرف فعلياً .
يقول سقراط : ” أعلم أنني لا أعلم ، و تلك أولى خطوات الحكمة ” و هي مقولة تلخص الموقف الفلسفي الواعي من المعرفة . إن من يسير بثقة نحو المجهول ، متجاهلاً حدود معرفته يكون أكثر عرضة للوقوع في فخ الظن و التقليد .
لا يقف الأمر عند الفرد ، بل يتعداه إلى المستوى الجماعي ، فحين يصبح اليقين الأعمى جزءاً من الوعي العام و يتحول إلى ثقافة مجتمعية تسود و تكرس و تقاوم أي مساءلة عقلية ، و يُقصى كل صوت ناقد باسم الدفاع عن الثوابت ، يصبح هذا الوعي هشاً سهل الانقياد ، خاضعاً لكل من يملك سلطة التأثير أو السيطرة على أدوات الإعلام و المعارف .
في التاريخ أمثلة صارخة على ذلك ، من أبرزها ما حدث مع جاليليو الذي حُكم عليه بالسجن لأنه خالف التصور السائد عن مركزية الأرض مؤمناً بأن الشمس هي مركز النظام . لم يكن ذلك صراعاً علمياً قط بل كان تجلياً لصدام بين تقليد أعمى ، و معرفة مبنية على الرصد و التجريب .
يقول الله عز و جل : ” و ما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن و إن الظن لا يغني من الحق شيئاً ” ( النجم 28 ) . فالظن هنا ليس مجرد احتمال ، بل قناعة غير مؤسسة ، تُستمد من العادة أو الشائعة لا من التحقيق .
إن الخروج من دائرة اليقين الأعمى لا يعني الوقوع في الشك المطلق ، بل في بناء يقين نقدي قابل للمراجعة ، و التمحيص ، و يستند إلى الحجة و الدليل .
المجتمعات الواعية هي تلك التي تشجع أبناءها على التساؤل ، و تعلمهم أن يعترفوا بجهلهم حين يعرفون ، و أن يتحروا الصواب دون تعصب ، و تغرس فيهم القدرة على التمييز بين الحقيقة و الزيف .
يقول سيدنا علي بن أبي طالب : ” ما ترك القومُ الحقَّ إلا لجهلهم به ” . وهي كلمة تصلح أن تكون شعاراً لكل ساعٍ إلى الحقيقة .
أ . لؤي ابراهيم عثمان