خلف الأسوار – سهيرعبدالرحيم – الفاتح عروة …تاريخ لايموت

إبان أحداث جوبا والجنوب ملتهب والرصاص سيد الموقف والشظايا والأشلاء تتناثر كالقطن المنفوش والهواء ممتلئ برائحة البارود والغضب والكراهية والدخان والنيران والعتمة تضحكان ملء فيهيهما على الأكسجين، ،

في تلك الأجواء و المرء يفر من أمه وأبيه والجميع يهرول مغادراً جوبا بما فيهم (الست الناظرة) أم الفصل و مرشدة التلاميذ الأمم المتحدة ،والتي قذفت طبشورتها و تركت سبورتها وحلقت بطائراتها تحمل موظفيها مبتعدة عن فوضى المدرسة.

في تلك الأجواء كانت الطائرة الوحيدة التي حلقت فوق سماء جوبا وهبطت وسط تلك النيران و بين زخات الرصاص كانت تلك التي يقودها الفريق الطيار الفاتح عروة لإجلاء موظفي شركة زين للاتصالات.

نعم هو ولا أحد غيره ، الزعيم رجل المهمات الصعبة، رجل المستحيل، إنه عروة، أيُّ رجل ذاك؟!! …وأيُّ قلبِ اسدّ يحمل ، وفيمَ كان يفكر حين حمل روحه داخل طوافته ضارباً مثلاً لا يُضاهى في فن القيادة و محطماً جميع نظريات (نفسي نفسي) و مثقلاً كاهلَ من يقول بعده “أنا راعٍ و مسؤولٌ عن رعيتي” .

أين في عالمنا ذاك الرجلُ الذي يحفر اسمه وسط اللهب والدخان ويعمل كرجل إطفاء في وقت كان يمكنه أن يحتسي كوب قهوته من شرفة مكتبه على مقرن النيلين؟!! .

هو عروة؛ ذاك السوداني ود البلد الأصيل، عرفته أول مرة من خلال مكالمة هاتفية ( “Private Number” ) يتصل بك حين كان (البرايفت نمبر) علامة فخامة المتصل وأهميته قبيل أن يحمله سَقَطُ المتاع.، والمترديةُ والنطيحةُ و ما أكل السبع.

كانت مكالمةً معلقاً فيها على مقال لي نُشر في صحيفة الانتباهة، ختمها بأنْ حاذري على نفسك من الأفاعي فلن يتركوك في حال سبيلك.

ثم توالت الرسائل و المكالمات بيننا من خلال رقمه الأمريكي وهو الرجل ذو السقف المفتوح .

في كل مرة كنت أحادثه كنت أغلق سماعة الهاتف وأنا في حيرة من رجل يحمد الله كل كسرٍ من الثانية وبين كلمة و أخرى و بين طرفة عين وانتباهتها و هو تحت وطأة العقاقير وعجز الطب و سطوة الألم و فشلنا في أن نمنحه جزءاً من عمرنا .

كان قوياً في مرضه لطيفاً في حديثه طيباً في معشره مجواداً كريماً أصيلاً صادقاً في الكلم والوعد جديراً بالثقة والمحبة ملهماً و قاصاً وحكيماً و خزينة من الأسرار وقنبلة موقوته للخونة وذاكرة حاضرة للتاريخ و محكمةً للانتهازيين و تبياناً أن ملعقة الذهب في فيه صقلت نفساً عزيزةً و قدراً كبيراً و شموخاً و أنفة و عيناً مليانة.

رحل الفاتح ولكنه ترك الأثر و القدرة على تطويع المستحيل و جعْل الحلم حقيقة ، يعرفه الناس بـ(زين السودان).. مكالمات و رسائل و سوشيال ميديا ونقْل العالم إلى السودان ولكني أعرفه رجلاً سودانياً أباً وعماً وخالاً و أخاً و متكئاً و ملهماً حاضراً و مستقبلاً .

*خارج السور:*
اللهم ارحم الفاتح عروة، واغفر له و تقبله القبول الحسن..اللهم جازه بالحسنات إحساناً وبالسيئات عفواً وغفراناً…اللهم احشره في سِدْرٍ مَّخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ وَمَاءٍ مَّسْكُوبٍ وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لَّا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ .اللهم احشره مع الصديقين والشهداء واجعل قبره روضة من رياض الجنة .

ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ..

(إنَّا للهِ وإنَّا إليهِ راجِعُونَ)

Exit mobile version