فشل مشروع آل دقلو في السودان: من الصعود إلى الانهيار

د.عبدالناصر سلم حامد
كبير الباحثين ومدير برنامج شرق أفريقيا والسودان في فوكس السويد
باحث في اداره الازمات ومكافحه الارهاب

منذ اندلاع الحرب بين قوات الدعم السريع والجيش السوداني في أبريل 2023، سعت قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي) إلى فرض سيطرتها على السودان عبر تكتيكات عسكرية تعتمد على الانتشار السريع، حرب المدن، والتحالفات القبلية. في البداية، تمكنت هذه القوات من تحقيق مكاسب عسكرية في العاصمة الخرطوم ومدن أخرى، مستفيدة من عنصر المفاجأة وضعف جاهزية الجيش في الأيام الأولى للصراع. لكن سرعان ما تغيرت المعادلة، إذ واجه الدعم السريع صعوبات في الاحتفاظ بمواقعه واضطر لخوض حرب استنزاف طويلة لم يكن مستعدًا لها. تفوق الجيش السوداني من حيث الإمداد، والتخطيط الاستراتيجي، والسيطرة الجوية جعل قوات الدعم السريع تفقد السيطرة تدريجيًا، لتجد نفسها معزولة عسكريًا وسياسيًا واقتصاديًا.

اعتمد الدعم السريع على حرب العصابات والمناورة السريعة، وهي تكتيكات فعالة في معارك محدودة لكنها غير مناسبة لحرب طويلة ضد جيش نظامي يمتلك تفوقًا في التسليح والإمداد والسيطرة الجوية. لم يتمكن من الاحتفاظ بأي مواقع استراتيجية لفترات طويلة، مما جعل مكاسبه العسكرية الأولية بلا تأثير دائم. القصف الجوي والمدفعي من الجيش السوداني جعله غير قادر على التحرك بحرية أو تأمين خطوط إمداده، بينما سمحت استراتيجية القضم التدريجي للجيش باستعادة المناطق بشكل منهجي، مما أدى إلى تقليص نفوذ الدعم السريع تدريجيًا.

تفوق الجيش السوداني: ثلاث مراحل حاسمة في إدارة المعركة

لم يكن تفوق الجيش السوداني في هذه الحرب مجرد نتيجة لقوة السلاح، بل كان انعكاسًا لاستراتيجية مدروسة نفذها عبر ثلاث مراحل رئيسية، مما جعله يحافظ على مواقعه ثم يتحول إلى الهجوم الحاسم.

المرحلة الأولى: الدفاع الصلب والحفاظ على القواعد الاستراتيجية
• مع اندلاع الحرب، ركز الجيش السوداني على عدم فقدان أي من قواعده الاستراتيجية، مما ضمن له قوة ارتكاز قوية يستطيع الانطلاق منها.
• نجح في تحصين مواقعه الرئيسية مثل القواعد الجوية والمقار العسكرية، مما منعه من الوقوع في الفوضى رغم الهجمات المباغتة من الدعم السريع.
• تجنب استنزاف قواته في معارك غير محسوبة داخل المدن، وبدلًا من ذلك تبنى نهجًا دفاعيًا أتاح له إعادة ترتيب صفوفه والانتقال إلى المرحلة التالية.

المرحلة الثانية: إضعاف الدعم السريع عبر الضربات الجوية والاستخباراتية
• بمجرد استقرار الوضع الدفاعي، بدأ الجيش مرحلة الإنهاك التدريجي لقوات الدعم السريع عبر تكثيف الهجمات الجوية بالطائرات الحربية والمسيرات.
• اعتمد على الضربات الجوية الدقيقة لاستهداف مراكز القيادة، مخازن الذخيرة، وآليات الدعم السريع، مما أدى إلى تقليص قدرتهم على المناورة وإجبارهم على التحرك بشكل عشوائي.
• نشّط العمليات الاستخباراتية لتعقب تحركات قادة الدعم السريع، مما ساعد على تنفيذ عمليات نوعية أضعفت معنوياتهم وقدرتهم على التواصل الفعال بين وحداتهم.

المرحلة الثالثة: السحق الجوي والبري والبحري والتقدم المدروس
• مع تراجع قدرات الدعم السريع، انتقل الجيش إلى مرحلة الهجوم الشامل، حيث اعتمد على استراتيجية سحق متكاملة جوًا وبرًا وبحرًا.
• تكثيف الضربات الجوية والمدفعية لشل حركة الدعم السريع قبل أي تقدم بري، مما قلل من الخسائر البشرية في صفوف الجيش وأجبر قوات العدو على الانسحاب قبل المواجهة المباشرة.
• تنفيذ عمليات برية محسوبة للغاية، بحيث يتم التقدم خطوة بخطوة لاستعادة المدن والمواقع دون خسائر غير ضرورية، مع الحرص على تقليل الأضرار التي قد تلحق بالمدنيين والبنية التحتية.
• حتى مقاتلي الدعم السريع تم منحهم فرصة للاستسلام، حيث استخدم الجيش أسلوب الحصار التدريجي بدلًا من التدمير العشوائي، مما ساهم في الحد من إراقة الدماء وأدى إلى انهيار الدعم السريع بأقل تكلفة بشرية ممكنة.

أهمية دعم القوات المسلحة في هذه المعركة

نجاح القوات المسلحة السودانية في هذه الحرب لا يمثل مجرد انتصار عسكري، بل هو ضرورة استراتيجية لاستقرار السودان ومنع تفكك الدولة. انهيار الدعم السريع يعيد السودان إلى المسار الصحيح نحو إعادة بناء مؤسسات الدولة ومنع تكرار تجربة الفوضى التي شهدتها دول أخرى بعد انهيار جيوشها أمام الميليشيات المسلحة. دعم القوات المسلحة السودانية يعني دعم وحدة البلاد ومنع تحولها إلى ساحة صراع دائم بين الفصائل المسلحة. الجيش السوداني ليس مجرد طرف في هذه الحرب، بل هو المؤسسة الوحيدة القادرة على الحفاظ على السودان كدولة موحدة ومستقرة. الحفاظ على الجيش وتعزيز قدراته يعني تجنب سيناريوهات الانهيار التي شهدتها دول مثل ليبيا واليمن، حيث أدى ضعف الجيوش إلى صعود ميليشيات متناحرة دمرت استقرار الدول وجعلتها عرضة للتدخلات الخارجية والصراعات المستمرة.

مقارنة تاريخية: كيف يشبه انهيار الدعم السريع تجارب أخرى؟
• ليبيا: بعد سقوط القذافي، نشأت ميليشيات مسلحة حاولت فرض سيطرتها لكنها فشلت بسبب غياب قيادة موحدة، وهو ما حدث مع الدعم السريع الذي لم يستطع التحول إلى قوة سياسية ذات شرعية.
• اليمن: الحوثيون تمكنوا من فرض سيطرتهم جزئيًا بسبب ضعف الدولة، بينما لم يتمكن الدعم السريع من بناء أي نموذج حكم حقيقي، مما جعله ينهار سريعًا.
• داعش في العراق وسوريا: استخدم داعش تكتيكات شبيهة بالدعم السريع، حيث اعتمد على الهجمات السريعة والسيطرة المؤقتة على المدن، لكنه انهار عندما واجه جيوشًا نظامية استخدمت تكتيكات القضم التدريجي والسيطرة الجوية.

الخاتمة: السودان أمام مرحلة جديدة

مع انهيار مشروع آل دقلو، يقف السودان أمام مرحلة مفصلية تحتاج إلى إعادة بناء الدولة على أسس أكثر استقرارًا. نجاح المرحلة القادمة يعتمد على قدرة الجيش السوداني على فرض الأمن، إدارة مرحلة انتقالية تؤدي إلى حكومة مدنية منتخبة، ومنع ظهور أي ميليشيات جديدة قد تعيد السودان إلى دوامة العنف والفوضى. دعم القوات المسلحة السودانية في هذه المرحلة لا يعني فقط القضاء على الدعم السريع، بل يمثل استثمارًا في مستقبل السودان كدولة موحدة وقوية قادرة على مواجهة التحديات الداخلية والخارجية.

ما قدمه الجيش السوداني خلال هذه الحرب لم يكن مجرد انتصار ميداني، بل كان نموذجًا عسكريًا ناجحًا في كيفية إدارة حرب معقدة متعددة الأبعاد. التمسك بالقواعد الاستراتيجية، استنزاف العدو تدريجيًا، ثم توجيه ضربة نهائية دقيقة، هو ما جعل القوات المسلحة السودانية تحسم الصراع بأقل خسائر ممكنة، مما يجعل هذه الحرب درسًا في التخطيط العسكري الناجح والقوة المدروسة

Exit mobile version