ضل التاية – بروفيسور إبراهيم محمد آدم – إلى أستاذي عبد اللطيف البوني – يجده بخير (1)

استاذي الجليل : عبد اللطيف البوني – السلام عليكم ورحمة الله وبركاته – قرأت بدمع سخي مقالك الذي عنونته- من اللعوتة الى نيويورك (الدخلت فينا ما بتمرق تاني … فأنا الآن غيري)، ذلك لأنك قلت في خاتمة المقال: وإن كانت هناك ثمة أمنية فإنني أتمنى على كل السودانيين دون استثناء إذا ما التقى أي واحد منهم بأحد من معارفه بعد غياب بسبب هذه النكسة أن يقالده ويبكيييييي لعل في ذلك تكون بداية للتعافي الوطني.وانفاذا لوصيتك تلك فأنا (من شدة بكاي جرى دمعي دافر) كما يقول شاعرنا الكبير السر دوليب، فالوضع جد حزين، “الحزن لا يَتخيَّر الدمع ثياباً كي يُسمى في القواميس بكاء، هو شيءٌ يتعرَّى من فُتات الروح، يعبُر من نوافير الدم الكبرى ويخرج من حُدود المادة السوداء. شيءٌ ليس يَفنى في محيط اللون أو يبدو هلاماً في مساحات العدَم. الحزن فينا كائنٌ يمشي على ساقين” هكذا قال الشاعر الصادق الرضي.
لم أشأ اتخذ عنواناً أعمق من تلك العبارة التي تُكتب على ظرف الخطاب ( يجده بخير ) وتُردف أحياناً بعبارة (مع تحياتي لساعي البريد) ، لقد قل سعاة البريد وأصبح الخبر يجيء ( شايلو النسيم ) وأغلب الأوقات ( عبر الأثير أو الأسافير )، سادت تلك العبارة أيام كان الزمان أخضر، والوطن معافى من كل الأدواء التي أوقعها فيه الاستعمار أو بعبارة أدق، بالوكالة عنه بعض ابناءه مستلبي البصيرة والفؤاد، نعم قرأت مقالك وكان دمعي يسيل نهراً كما تقول الشاعرة هاجر سليمان طه في حبها للوطن ( هوى في القلب أحبسه فيترا – ويجري مدمعي فيسيل نهرا )، كانت هاجر إحدى ايقونات المنتديات الثقافية لجامعة جوبا والتي يزينها فحول الشعراء أمثال يونس محمود، صديق المجتبى،سميرة الغالي وكواكب أخرى لم تنتثر.
بكيت على كل ما جاء في المقال لانك قلت لصديقك الراحل صديق مضوي:) إن (ربنا بريدك) لأنك كنت محباً لكل الناس بمن فيهم المختلفين معك في كل شيء وليس أدل على محبة الله لك من أنك رحلت عن الدنيا بسودانها قبل يوم ١٥ أبريل ٢٠٢٣. بعد هذا التاريخ انفتحت علينا صفحة مختلفة كان لابد أن يكون أول سطورها إهداء لك وتوسلا بك.. وهذا لأمر قدره الله(.
اشاطرك ذلك الرأي فكل من مات قبل ذلك التاريخ سعيد لأن تلك الفظائع غير مسبوقة في تاريخ البشرية حتى من قبل بني اسرائيل ومن قبلهم المغول والتتار.نعم فالذي مات قبل ذلك لم ير في حياته تلك الأهوال وكل ما فقد سيجده مدخراً له في جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين، أما أن يظل الانسان حياً وهو يكابد تلك الذكريات فذاك عذاب مقيم، لذلك فضل كثيرون الموت الذي اصبح أمنية كما قال الشاعر ابو الطيب المتنبي( كفى بك داء أن ترى الموت شافيا – وحسب المنايا أن يكن امانيا)وهذه ابيات من قصيدته في مدح كافور الاخشيدي وهنا يخاطب المتنبي نفسه :(كفاك ايتها النفس اذا وصل بك الحال الى تمني الموت فذلك هو غاية الشدة، وان كان هنالك داء لا شفاء منه سوى الموت فذلك أيضاً غاية الشدة والبلاء).
بكيت كذلك على حالك يا استاذي ،حين أعطيتنا شذرات من الخاص سأعود إليها إن مد الله في الآجال، ذلكم لأنك شخصية محبوبة لعامة الناس وخاصتهم، وكل يحطب من غابتك بليل كما هو عنوان عمودك الأشهر ( حاطب ليل ) حين كان الزمان أجمل و(السبت اخضر) وهذا ايضاً عنوان برنامجك على قناة النيل الأزرق،ليتك دوماً استاذي غابة للعلم والناس حطابة، لم أقل لك البروفيسور بداية لأن الاستاذية تعني ذات المفردة، فقد عرفتك أولاً عبر صفحات طيبة الذكر مجلة الملتقى التي كانت تصدر في تسعينيات القرن الماضي، وكنا نحن حينها طلاباً في الجامعات نحلم بكل ما هو جميل قبل أن تصبح احلامنا هشيماً تذروه الرياح، وسبحان من هو على كل شيئ مقتدراً، أو أنها ذهبت مع الريح كما استخدمت انت تلك العبارة، وهي عنوان الفيلم الامريكي الأثير ( Gone with wind ) فحينها الزمن كان مبتسم والليالي جميلة حالمة، كانت تزين تلك المجلة أقلامك والأساتذة محمد طه محمد أحمد، الكندي يوسف، إمام علي الشيخ، يس إبراهيم، وآخرين كثر من ذلك العقد النضيد.
عقب التخرج في الجامعة مباشرة قرأت لك كتاباً عنوانه (البعد الديني لقضية جنوب السودان) فوجدت فيه ضالتي لدراساتي القادمة، وقد كان البعد الديني حاضراً في تلك القضية، وأنا لا أزال في بدايات ترتيباتي الأكاديمية أحلم بأن أسهم عبر الأبحاث العلمية في حل تلك القضية بوسائل أخرى غير البندقية ( بحلك يا قضية بدون صوت بندقية)، نعم حملت الرسالة نفس عنوان ذات الكتاب و كانت استمراراً لنفس حقل بحثي للتخرج في قسم العلوم السياسية بجامعة جوبا (Southern Sudan – new dimension of the civil war) اشرف على بحث التخرج ذاك الوالي والمحاظ وضابط الأمن الغيور وأستاذ العلوم السياسية بجامعة جوبا شارلس جولو بويو.
كان فضل الله علي عظيماً إذ أنعم علي بكم مشرفاً على رسالة الماجستير تلك إذ لم تضن علي بأي مساعدة ، ثم واصلت المسير في ذات التخصص في الفكر السياسي لدرجة الدكتوراة التي اختصني الله أن أرافق فيها الأستاذ العلم البروفيسور حسن مكي، ويا لها من رفقة طوفت بي بين كبريات الشعاب والوفود التي تروح وتغتدي بين جنوب السودان وشماله، ومدن كينيا، نيروبي و ناكورو ومشاكوس ونيفاشا ولوكيشيكو، وآه من كينيا التي اتخذها الاستعمار مزرعة للاستثمار في مشاكلنا، لم تكن صحبتكم في الماجستير فقط ولكنك شرفتني أيضاً بعضوية لجنة المناقشة لاطروحة الدكتوراة التي ضمت اساطين هذا المجال المشرف البروفيسور حسن مكي والبروفيسور يوسف فضل حسن، والبروفيسور المرحوم عوض السيد السعيد الكرسني ،وشخصكم بروفيسور عبد اللطيف البوني وقد كانت تلك هي المرة الأولى والأخيرة في حياتي التي احضر فيها لجنة مناقشة بها أربعة أعضاء، وقد كتب استاذي البروفيسور حسن مكي عن تلك الرسالة مقالاً رصيناً في صحيفة الرأي العام، كان عنوانه ( زيارة علمية إلى حركة التمرد).
مقالك الأخير الذي قرأت يصلح بداية لكتاب متخصص فقد افرغته من الهاتف السيار الى الحاسوب المحمول فملأ ست صفحات ، وسأسير ان شاء الله في تشريح ذلك المقال على خطاكم استاذي حيث اقتبس منه هذه الفقرة بلا تصرف فهي خاتمته، ولكني سأعود إن شاء الله على بدء ، ولن أكتفي بتدوير المقال أو كما قلت انت : ( ولكن نكبة السودان الحالية يجب أن يؤرخ لها أي سوداني عايش هذه الأحداث فهو جبرتي قائم بذاته (المؤرخ المصري الجبرتي هو الذي قام برصد يوميات حملة نابليون في مصر) يجب الإسراع بالتوثيق لأن كل الشهود حاضرين الآن ومن رأى ليس كمن سمع فليس هناك مجالاً للتزوير والتدليس فلا تضيعوا هذه الفرصة ويجب أن نتخذ منهجاً علمياً في الرصد والمتابعة وذلك بإنشاء قواعد بيانات فرعية لتصب في قاعدة بيانات عامة وعدم تجاهل ما كابده المواطن العادي في هذه الحرب)، نعم لن نضيعها فرصة بإذن الله . يتبع

Exit mobile version