دكتور .عبدالناصر سلم حامد
كبير الباحثين ومدير برنامج شرق افريقيا والسودان في فوكس
مع دخول الحرب السودانية عامها الثالث، يبدو المشهد أكثر تعقيدًا وتشابكًا. الحرب التي اندلعت في أبريل 2023 بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، سرعان ما تحولت من صراع عسكري محدود إلى أكبر أزمة إنسانية واقتصادية وسياسية في تاريخ السودان الحديث.
ومع مرور عامين، لم يعد السؤال يدور حول من سينتصر عسكريًا، بل حول: كيف سيخرج السودان من هذه الحرب؟ وهل يمضي السودان نحو الحسم العسكري أم نحو تسوية سياسية تفرضها الحقائق الميدانية والضغوط الدولية؟
نزيف بشري بلا نهاية
وفق أحدث تقديرات الأمم المتحدة حتى مارس 2025، أسفرت الحرب عن مقتل أكثر من 150 ألف شخص، وإصابة ما لا يقل عن 50 ألفًا، في وقت انهار فيه القطاع الصحي بالكامل في العديد من المناطق.
وفي مشهد يعكس حجم الكارثة، يعيش السودان اليوم أكبر أزمة نزوح داخلي في العالم، حيث اضطر 12 مليون سوداني للنزوح داخليًا، بينما لجأ 3.2 مليون سوداني إلى دول الجوار، في تشاد وجنوب السودان ومصر وإثيوبيا.
اقتصاد في غرفة الإنعاش
ترافق النزيف البشري مع انهيار اقتصادي شامل، حيث فقد السودان حوالي 70% من ناتجه المحلي الإجمالي.
• انهارت الصادرات بنسبة 85%.
• الجنيه السوداني تراجع ليصل إلى 2500 جنيه للدولار الواحد.
• ارتفعت معدلات التضخم إلى أكثر من 800%.
وبات اقتصاد الحرب هو المسيطر، حيث يعتمد الملايين على الاقتصاد الموازي والتهريب، بينما تلاشت تقريبًا وظائف الدولة التقليدية في تحصيل الإيرادات وتقديم الخدمات.
بنية تحتية مدمرة
الحرب لم تدمر الأرواح والاقتصاد فحسب، بل أجهزت على البنية التحتية:
• 60% من المستشفيات خرجت عن الخدمة.
• 45% من المدارس أغلقت أبوابها أو تحولت لمراكز إيواء.
• 30% من شبكة الطرق والجسور تعرضت للتدمير.
• انقطاع الكهرباء والمياه أصبح سمة يومية في الخرطوم ودارفور.
السودان على أعتاب المجاعة
بحسب برنامج الغذاء العالمي، فإن 20 مليون سوداني يعانون من انعدام الأمن الغذائي الحاد.
• تراجع الإنتاج الزراعي بنسبة 60%.
• يعتمد 85% من سكان دارفور وكردفان على المساعدات الإنسانية، التي تصل بشكل متقطع بسبب المعارك.
الخريطة العسكرية: الجيش يستعيد زمام المبادرة
خلال العام الثاني للحرب، تمكنت القوات المسلحة السودانية من قلب ميزان القوى.
• استعادت أجزاء واسعة من الخرطوم وأم درمان، بما فيها القيادة العامة.
• سيطرت على طرق الإمداد الرئيسية بين وسط السودان ودارفور.
• بسطت نفوذها على مناطق استراتيجية في الجزيرة وكردفان.
لماذا تراجع الدعم السريع؟
رغم بدايته القوية، دخلت قوات الدعم السريع في مرحلة انهيار تدريجي، لأسباب عدة:
• الاستنزاف الكبير في الأفراد والعتاد.
• فقدان طرق الإمداد بسبب تقدم الجيش.
• تراجع الحاضنة الاجتماعية نتيجة الانتهاكات التي ارتكبتها قوات الدعم السريع بحق المدنيين.
• انقسامات داخلية بين القادة الميدانيين حول استراتيجية المعركة ومستقبل التفاوض.
بين الحسم العسكري والتفاوض
مع هذا التقدم العسكري للجيش، يصبح أمام السودان سيناريوهان:
1- سيناريو الحسم العسكري
• إنهاء وجود الدعم السريع تمامًا.
• مكلف جدًا بشريًا واقتصاديًا.
• يحمل مخاطر اندلاع حرب عصابات طويلة خاصة في دارفور.
2- سيناريو التفاوض من موقع القوة
• يستغل الجيش تفوقه الميداني لفرض شروطه.
• يسمح بإعادة ترتيب المشهد السياسي، مع إشراك القوى المدنية.
• يقلل الكلفة البشرية والاقتصادية للحرب.
إعادة الإعمار: فاتورة ثقيلة
حتى في حال توقف الحرب غدًا، فإن إعادة الإعمار ستكون مهمة شبه مستحيلة:
• السودان يحتاج إلى 150 مليار دولار على الأقل لإعادة بناء ما دمرته الحرب.
• الخرطوم وحدها تحتاج 30 مليار دولار.
• القطاع الصحي بحاجة إلى 5 مليارات دولار على الأقل.
لكن هذه الفاتورة مشروطة بوجود توافق سياسي وخطة إنقاذ دولية، وهو أمر غير متاح حتى الآن.
خاتمة: كلما طال أمد الحرب.. تضاعفت الكلفة
ما لم يحدث حسم عسكري سريع أو تفاوض سياسي عاجل، فإن كل يوم إضافي من الحرب يعني:
• مزيدًا من القتلى والنازحين.
• مزيدًا من التدمير الاقتصادي.
• تآكل فرص السلام، وتعمق ثقافة الانتقام والثأر.
السودان اليوم يقف أمام نافذة ضيقة ومرحلة مفصلية ستحدد ملامح مستقبله لعقود قادمة، فإما أن يتحول التقدم العسكري إلى نقطة ارتكاز لتسوية سياسية شاملة، تؤسس لسلام مستدام يعالج جذور الأزمة ويعيد بناء الدولة على أسس من التوافق الوطني، أو ينزلق إلى دوامة صراعات بلا نهاية، تلتهم ما تبقى من الدولة وتغرق السودان في فوضى مسلحة، تجعله نسخة مكررة من السيناريو الليبي أو السوري، وربما بأسوأ تجلياتهما.
فالنسيج الاجتماعي الهش، وتعقيدات التركيبة القبلية، وتضارب مصالح القوى السياسية والعسكرية، كلها عوامل تجعل من أي حل سياسي سريع مجرد هدنة مؤقتة، قابلة للانفجار عند أول اختبار حقيقي. وفي ظل تداخل الأبعاد الإقليمية والدولية، وتحول السودان إلى ساحة مفتوحة لتصفية الحسابات بين الفاعلين الخارجيين، تتضاعف احتمالات الانزلاق إلى حالة “اللاحرب واللاسلم”، حيث تذوب الحدود بين الحرب الأهلية والصراع بالوكالة، وتتحول الموارد والثروات إلى وقود للصراع بدلاً من أن تكون أداة لبناء الدولة.
إن الخطر الحقيقي اليوم لا يكمن فقط في استمرار المواجهات العسكرية، بل في غياب مشروع وطني جامع قادر على رأب الصدع الداخلي، وإعادة تعريف العلاقة بين المركز والأطراف، وبين الدولة والمجتمع، بما يعيد للسودان توازنه المفقود. بدون ذلك، سيجد السودان نفسه في قلب عاصفة جديدة، تتحول فيها الحرب إلى نمط حياة، وتصبح التسويات الجزئية مجرد محطات مؤقتة، تُهيئ الأرض لانفجارات أوسع وأخطر.
السؤال اليوم ليس من ينتصر عسكريًا، بل من يمتلك القدرة على تحويل هذا الانتصار إلى أساس لحل سياسي شامل، يحمي وحدة السودان، ويمنع انزلاقه إلى نموذج الدولة الفاشلة التي تنهشها الحروب وتقتسمها المصالح الخارجية